فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إن النفرة للجهاد في سبيل الله انطلاق من قيد الأرض، وارتفاع على ثقلة اللحم والدم؛ وتحقيق للمعنى العلوي في الإنسان، وتغليب لعنصر الشوق المجنح في كيانه على عنصر القيد والضرورة؛ وتطلع إلى الخلود الممتد، وخلاص من الفناء المحدود:
{أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل}.
وما يحجم ذوعقيدة في الله عن النفرة للجهاد في سبيله، إلا وفي هذه العقيدة دخل، وفي إيمان صاحبها بها وهن. لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من شعب النفاق» فالنفاق- وهو دخل في العقيدة يعوقها عن الصحة والكمال- هو الذي يقعد بمن يزعم أنه على عقيدة عن الجهاد في سبيل الله خشية الموت أو الفقر، والآجال بيد الله، والرزق من عند الله. وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل.
ومن ثم يتوجه الخطاب إليهم بالتهديد:
{إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا ويستبدل قومًا غيركم ولا تضروه شيئًا والله على كل شيء قدير}.
والخطاب لقوم معينين في موقف معين. ولكنه عام في مدلوله لكل ذوي عقيدة في الله. والعذب الذي يهتددهم ليس عذاب الآخرة وحده، فهو ذلك عذاب الدنيا. عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح، والغلبة عليهم للأعداء، والحرمان من الخيرات واستغلالها للمعادين؛ وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد؛ ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء. وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل، فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء..
{ويستبدل قومًا غيركم}.
يقومون على العقيدة، ويؤدون ثمن العزة، ويستعلون على أعداء الله: {ولا تضروه شيئًا}.
ولا يقام لكم وزن، ولا تقدمون أو تؤخرون في الحساب!
{والله على كل شيء قدير}.
لا يعجزه أن يذهب بكم، ويستبدل قومًا غيركم، ويغفلكم من التقدير والحساب!
إن الاستعلاء على ثقلة الأرض وعلى ضعف النفس، إثبات للوجود الإنساني الكريم. فهو حياة بالمعنى العلوي للحياة: إن التثاقل إلى الإرض والاستسلام للخوف إعدام للوجود الإنساني الكريم. فهو فناء في ميزان الله وفي حساب الروح المميزة للأنسان.
ويضرب الله لهم المثل من الواقع التاريخي الذي يعلمونه، على نصرة الله لرسوله بلا عون منهم ولا ولاء، والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء:
{إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم}.
ذلك حين ضاقت قريش بمحمد ذرعًا، كما تضيق القوة الغاشمة دائمًا بكلمة الحق، لا تملك لها دفعًا، ولا تطيق عليها صبرًا، فائتمرت به، وقررت أن تتخلص منه؛ فأطلعه الله على ما ائتمرت، وأوحي إليه بالخروج، فخرج وحيدًا إلا من صاحبه الصدّيق، لا جيش ولا عدة، وأعداؤه كثر، وقوتهم إلى قوته ظاهرة. والسياق يرسم مشهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه: {إذ هما في الغار}.
والقوم على إثرهما يتعقبون، والصديق رضي الله عنه يجزع- لا على نفسه ولكن على صاحبه- أن يطلعواعليها فيخلصوا إلى صاحبه الحبيب، يقول له: لو أن أحدهم نظر إلى قدمية لأبصرنا تحت قدميه. والرسول صلى الله عليه وسلم وقد أنزل الله سكينته على قلبه، يهدئ من روعه ويطمئن من قلبه فيقول له: «يا أبا بكر ما ظنك بأثنين الله ثالثهما؟».
ثم ماذا كانت العاقبة، والقوة المادية كلها في جانب، والرسول صلى الله عليه وسلم مع صاحبه منها مجرد؟ كان النصر المؤزر من عند الله بجنود لم يرها الناس. وكانت الهزيمة للذين كفروا والذل والصغار: {وجعل كلمة الذين كفروا السفلى}.
وظلت كلمة الله في مكانها العالي منتصرة قوية نافذة: {وكلمة الله هي العليا}.
وقد قرئ {وكلمةَ الله} بالنصب. ولكن القراءة بالرفع أقوى في المعنى. لأنها تعطي معنى التقرير. فكلمة الله هي العليا طبيعة وأصلًا، بدون تصيير متعلق بحادثة معينة. والله: {عزيز} لا يذل أولياؤه {حكيم} يقدر النصر في حينه لمن يستحقه.
ذلك مثل على نصرة الله لرسوله ولكلمته؛ والله قادر على أن يعيده على أيدي قوم آخرين غير الذين يتثاقلون ويتباطأون. وهو مثل من الواقع إن كانوا في حاجة بعد قول الله إلى دليل!
وفي ظلال هذا المثل الواقع المؤثر يدعوهم إلى النفرة العامة، لا يعوقهم معوق. ولا يقعد بهم طارئ، إن كانوا يريدون لأنفسهم الخير في هذه الأرض وفي الدار الآخرة:
{انفروا خفافًا وثقالًا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}.
انفروا في كل حال، وجاهدوا بالنفوس والأموال، ولا تتلمسوا الحجج والمعاذير، ولا تخضعوا للعوائق والتعلات.
{ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}.
وأدرك المؤمنون المخلصون هذا الخير. فنفروا والعوائق في طريقهم، والأعذار حاضرة لو أرادوا التمسك بالأعذار. ففتح الله عليهم القلوب والأرضين، وأعز بهم كلمة الله، وأعزهم بكلمة الله، وحقق على أيديهم ما يعد خارقة في تاريخ الفتوح.
قرأ أبو طلحة رضي الله عنه سورة براءة فأتى على هذه الآية فقال: أرى ربنا استنفرنا شيوخًا وشبانًا، جهزوني يا بني. فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك.
فأبى فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة أيام، فلم يتغير، فدفنوه بها.
وروى ابن جرير بإسناده- عن أبي راشد الحراني قال: وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- جالسًا على تابوت من توابيت الصيارفة، وقد فضل عنها من عظمه يريد الغزو؛ فقلت له قد أعذر الله إليك. فقال: أتت علينا سورة البعوث.
{انفروا خفافًا وثقالًا}.
وروى كذلك بإسناده- عن حيان بن زيد الشرعبي قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو، وكان واليًا على حمص قبل الأفسوس إلى الجراجمة فرأيت شيخا كبيرًا هما، قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار، فأقبلت إليه فقلت: يا عم لقد أعذر الله إليك.
قال: فرفع حاجبيه فقال يا ابن أخي استنفرنا الله، خفافًا وثقالًا. ألا إنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده فيبقيه، وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إلا الله عز وجل.
وبمثل هذا الجد في أخذ كلمات الله انطلق الإسلام في الأرض، يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وتمت تلك الخارقة في تلك الفتوح التحريرية الفريدة. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)}
أخرج الفريابي وأبو الشيخ عن أبي الضحى رضي الله عنه قال: أوّل ما نزل من براءة {انفروا خفافًا وثقالًا} ثم نزل أولها وآخرها.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أبي مالك رضي الله عنه قال: أول شيء نزل من براءة {انفروا خفافًا وثقالًا} ثم نزل أولها وآخرها.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أبي مالك رضي الله عنه قال: أول شيء نزل من براءة {انفروا خفافًا وثقالًا}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {انفروا خفافًا وثقالًا} قال: نشاطًا وغير نشاط.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحكم في قوله: {انفروا خفافًا وثقالًا} قال: مشاغيل وغير مشاغيل.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن رضي الله عنه في قوله: {انفروا خفافًا وثقالًا} قال: في العسر واليسر.
وأخرج ابن المنذر عن زيد بن أسلم رضي الله عنه في قوله: {خفافًا وثقالًا} قال: فتيانًا وكهولًا.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عكرمة في قوله: {خفافًا وثقالًا} قال: شبابًا وشيوخًا.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه قال: قالوا: إن فينا الثقيل وذا الحاجة والصنعة والشغل والمنتشر به أمره في ذلك، فأنزل الله: {انفروا خفافًا وثقالًا} وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا خفافًا وثقالًا وعلى ما كان منهم.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي رضي الله عنه قال: جاء رجل زعموا أنه المقداد وكان عظيمًا سمينًا، فشكا إليه وسأله أن يأذن له فأبى، فنزلت يومئذ فيه {انفروا خفافًا وثقالًا} فلما نزلت هذه الآية اشتد على الناس شأنها، فنسخها الله فقال: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى} [التوبة: 91] الآية.
وأخرج ابن جرير عن حضرمي قال: ذكر لنا أن أناسًا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلًا أو كبيرًا فيقول: إني لا آثم، فأنزل الله: {انفروا خفافًا وثقالًا} الآية.
وأخرج ابن سعد وابن أبي عمر العدني في مسنده وعبدالله بن أحمد في زوائد الزهد وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس بن مالك. أن أبا طلحة قرأ سورة براءة، فأتى على هذه الآية: {انفروا خفافًا وثقالًا} قال: أرى ربنا يستنفرنا شيوخًا وشبابًا. وفي لفظ فقال: ما أسمع الله عذر أحد أجهزوني.
قال بنوه: يرحمك الله تعالى قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، وغزوت مع أبي بكر حتى مات وغزوت مع عمر رضي الله عنه حتى مات، فنحن نغزو عنك. فأبى فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة أيام، فلم يتغير فدفنوه فيها.
وأخرج ابن سعد والحاكم عن ابن سيرين رضي الله عنه قال: شهد أبو أيوب رضي الله عنه بدرًا ثم لم يتخلف عن غزوة للمسلمين إلا عامًا واحدًا، وكان يقول: قال الله: {انفروا خفافًا وثقالًا} فلا أجدني إلا خفيفًا وثقيلًا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن أبي راشد الحبراني قال: رأيت المقداد فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص يريد الغزو فقلت: لقد أعذر الله تعالى إليك.
قال: ابت علينا سورة التحوب {انفروا خفافًا وثقالًا} يعني سورة التوبة.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي يزيد المديني قال: كان أبو أيوب الأنصاري والمقداد بن الأسود يقولان: أمرنا أن تنفر على كل حال، ويتأوّلان قوله تعالى: {انفروا خفافًا وثقالًا}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)}
أمرهم بالقيام بحقه، والبدار إلى أداء أمره في جميع أحوالهم.
{خفافًا} يعني في حال حضور قلوبكم، فلا يمسُّكم نَصَبُ المجاهدات.
{وثقالا} إذا رُدِدْتُم إليك في مقاساة تعب المكابدات. فإنَّ البيعةَ أُخِذَتْ عليكم في (...) و(...).
ويقال: {خفافا} إذا تحررتم من رِقِّ المطالبات والاختيار، {وثقالا} إذا كان على قلوبكم ثقل الحاجات، وأنتم تؤمِّلُون قضاءَ الحقِّ مآرِبَكم. اهـ.